تظل تمشي وعيونك في الأرض، لن ترفعها إلا إن بتدخل من الأقدار التي تجعلك تنتبه أن هناك حياة ذات زخم هائل مرصوفة و مرصوصة بين جدران البنايات و خلفها. عوالم من خيال، و تختلف عن الخيال بكونها حقيقية وشديدة المادية…لأنها ببساطة أحلام بنيت من حجر

في الحقيقة لم أدرك أن الحجر يمكن أن يحمل كل هذه الخيالات و الأحلام قبل أن أدرس العمارة. لقد كان في الواقع يوما عظيما ذلك اليوم الذي دخلت فيه كلية الهندسة. حينها لم أدرك روعة الحدث، خاصة و أن يومي الأول فيها كان أكثر من العادي، حتى أن درسي الأول كان عن السلالم والأدراج… أذكره وكأنه حدث اليوم و الآن. لكن بعدها شيء ما تغيّر دون أن أنتبه، أو ربما انتبهت لكن لم أتوقع أن التغيير سيكون له هذا الأثر دون أن أنتبه، أو ربما انتبهت لكن لم أتوقع أن التغيير سيكون له هذا الأثر العميق

كانت الهندسة المعمارية قدرا لم أختره، لكنه اختارني من بين جموع غفيرة حلمت به. هذا القدر اختارني ورعاني حتى أنني وجدت نفسي بعدها أرعاه و أدعو له كدين في أروقة الجامعة. ذلك لأنه مع مرور الوقت وجدتني أرى في كل طريق أسلكه مسار أمّة، في كل ساحة عامة ملعبا لطفل، في كل مبنى سكني أدخله حياة أسرة، وفي كل بناية حكومية طموح وطن في أن يجد لنفسه مكانا بين الأقوياء. ثم إن إدراكي أنني أستطيع أن أرسم كل هذا بنفسي، قدرتي على تشكيل هذه الطرقات والساحات و السكنات… الفكرة وحدها و رغم حقيقتها، كانت و مازالت تجتاحني كخيال جامح لا أملك أمامه إلا أن أخاف أمام هوس اللامثالية إذ أنه: ماذا لو لم ترتقي أفكاري المعمارية لتعبّر عن تطلعات الطفل الذي يلعب في الساحة؟ ماذا لو لم أستطع أن أجعل المنزل دافئا للأسرة التي تسكنه؟ ماذا لو لم يكن المبنى الحكومي الذي سأصممه عاكسا لتاريخ أمّتي؟  

لا أظن أن هناك مهندسا معماريا يبرح طاولة رسمه إلا وقد برّحت هذه المخاوف سلامه الداخلي

أسمّي هذه الأفكار و صداها العالي “الضمير المعماري”. هذا الضمير الوخّاز ينشط على قدر عمق  الإدراك للأثر الذي يتركه الخيار الذي يتبنّاه المعماري على حياة الناس و الأوطان و حتى على حضارات الأمم، لأنه يمثّل في المجمل التجسّد المادي لأفكارها و عقلها الجمعيّ و رقيّها الحسّي والجماليّ. لا أدري كيف يمكن أن لا يخاف المعماري وقد تمّ تكليفه بهذه المهمة الحضارية الكبرى 

وقد فهم أهمية هذه المهمة المستحيلة التي يُكلّف بها المعماري كبار الساسة و المفكرّين عبر التاريخ. و ممّا يذكره لنا التاريخ من هذا الوعي أنه بعد أن قصف الألمان مبنى مجلس العموم البريطاني في شهر ماي 1941 ، طلب رئيس الوزراء حينها وينستون تشرشل من المهندس المعماري المصمم ” جيل غيلبرت سكوت” بأن تكون إعادة المبنى على نفس صورته الأولى التي كان يرى أنها أحسن ما يمكن أن يكون. غرفة مستطيلة صغيرة نسبيا، تتسع لـ 427 مقعدا فقط، بينما عدد أعضاء مجلس العموم هو 646 عضوا. لقد آمن بأن الغرفة المكتظة بأعضاء البرلمان الذين إن تأخر أحدهم قد لن يجد مقعدا له طوال الجلسة، شكلها الموروث من أول حقبة ظهرت فيها فكرة البرلمان أصلا، كلها عوامل تساهم في خلق حالة من القلق الوجودي الذي يجب أن يعيشه ممثل الشعب في المبنى الذي وُضع لإسماع صوت الشعب 

و في خطابه الذي ألقاه أمام مجلس اللوردات البريطاني في 28 من أكتوبر1943 ، لخّص تشرشل، وهو السياسي المخضرم، نظرته هذه كلها في جملة ستصبح شعارا لكل المعماريين : نحن نشكل المباني حتى تقوم هي فيما بعد بتشكيلنا 

أنت إذا كمهندس، مصمم، و معماري، لست فقط مخوّلا بتشكيل المباني التي يعيش فيها الناس، أنت في الحقيقة مطالب بتشكيل كلّ حياتهم و تشكيل حتى شخصياتهم. ستصمم لكل إنسان المستشفى التي سيأتي فيها إلى الحياة، العيادة الجوارية التي سيتلقى فيه أول تطعيم ضد الحصبة، أول طريق سيمشيه وحده دون والديه نحو المدرسة، ستصمم المدرسة نفسها التي سيلتقي فيها أول صديق ويتعلم فيها معارفه الأولى، سترسم له أول بيت سيشتريه ليسكن مع حبيبته ويستقبلان فيها وليدهما الأول 

….يا الله كم هو خيال رائع وحلم استثنائي و مخيف معا أن تكون مهندسا معماريا

Leave a comment